بين الألم والصمت.. نساء غزة يدفعن ثمناً باهظاً للحرب

بين الألم والصمت.. نساء غزة يدفعن ثمناً باهظاً للحرب
فلسطينية بين الأنقاض والغبار في غزة - أرشيف

دفعت نساء قطاع غزة ثمناً باهظاً للحرب، لم يقتصر على فقدان الأحبة أو البيوت المهدّمة، بل طال وجوههن وأجسادهن، تاركاً لهن ندوباً أبدية تُذكّرهن في كل صباح بما جرى. 

يقفن اليوم في طوابير طويلة أمام المستشفيات، ينتظرن موافقة على تحويلة علاجية أو عملية تجميلية قد تعيد لهن جزءاً من ملامحهن المسروقة، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم السبت. 

وخلف تلك الوجوه المحروقة والمشوهة تختبئ مأساة إنسانية أعقد من مجرد إصابة جسدية.. إنها معركة ضد الألم والعزلة وفقدان الهوية، وسط عجز النظام الصحي في غزة وانسداد أفق العدالة.

في ثلاجة الموتى

تبدأ نجوى أبو عطوي حكايتها من لحظةٍ تشبه الكابوس. تقول: "استفقتُ على صوت القصف في الرابعة فجراً، لأجد نفسي لاحقاً داخل ثلاجة الموتى في مشفى العودة جنوب القطاع".

كانت في عداد القتلى حتى مرّت ممرضة لتسلّم جثماناً مجاوراً، فلاحظت حركة خفيفة في رأسها، لتُنقذها من موتٍ محقق وتنقلها إلى العناية المركزة.

عندما استعادت وعيها بعد أيام، علمت أن ابنتها قضت في الغارة ذاتها، وأصيب أبناؤها الخمسة بجروح متفاوتة، في حين فقدت 15 فرداً من عائلتها، منهم إخوتها وأبناؤهم وأم زوجها.

لكن الصدمة الكبرى لم تكن في الفقد، بل حين نظرت إلى وجهها للمرة الأولى بعد الحادثة.. "طلبت مرآة لأرى نفسي، وعندما نظرت.. لم أتعرف عليّ، صرختُ وبكيتُ حتى أُغمي عليّ من جديد".

تخفي ملامح الألم

تعيش نجوى اليوم بوجهٍ آخر، بعينٍ واحدةٍ وجلدٍ مشوّه، تحاول أن تخفي ملامح الألم خلف وشاحها، في حين يسألها طفلها الصغير ذو الأربع سنوات: “ماما، الطبيب رجّع لك عينك؟” فتجيبه بصوتٍ مكسور: “لسه يا حبيبي، المرة الجاية".

تعاني من صعوبة في التنفس بعد عمليات معقدة في الأنف والفكين والقصبة الهوائية، وتعجز عن تناول الطعام بطريقة طبيعية. 

ورغم تلقيها جلسات دعم نفسي، تقول: "لا أشعر بتحسّن؛ لأن كل شيء حولي يذكرني بابنتي الراحلة، وبوجهي الذي لم يعد وجهي".

وتضيف بحرقة: "أريد فقط أن أخرج من غزة لأحصل على عينٍ صناعية وأعيش كالبشر".

رصاصة سرقت جسدها 

أما ناريمان الطويل، فكانت نائمة في خيمتها مع طفلها الوحيد عندما باغتها القصف. تستعيد اللحظة وتقول: "استفقت على بركة دماء، نظرت إلى طفلي ولم أجد عينه، أما أنا، فكان بطني وصدري مثقوبين".

نُقلت بعربة بدائية إلى المستشفى في ظل عجز سيارات الإسعاف، لتكتشف لاحقاً أن الرصاصة المسيّرة التي أصابتها أحدثت تشوهاً واسعاً في البطن والصدر والرئة والظهر.

"لم أستطع النظر إلى نفسي بعد الحادثة، شعرت أن شيئاً اقتُطع مني رغماً عني"، تقول بصوتٍ خافت.

أصبحت عاجزة عن حمل الأشياء الثقيلة أو القيام بأي مجهود بدني، وأصابها ما تصفه بـ"الندوب النفسية" التي لا يراها أحد لكنها تنزف كل يوم.

تحلم ناريمان بالانتقام أو على الأقل بتقديم شكوى ضد من دمّر حياتها، لكنها تعلم أن العدالة بعيدة المنال في واقعٍ يغيب فيه الحساب.

"لو استطعت أن أكشف إصابتي أمام الناس ليفهموا حجم الألم لفعلت، لكني محجبة، والإصابة تمتد على نصف جسدي. لا أحد يفهم أن لي حقاً في أن يكون لي جسد سليم وجميل، وأن يُسلب هذا الحق هو أقسى أنواع العنف".

ألم يتجاوز الجسد

تُظهر قصتا نجوى وناريمان ملامح معاناة مئات النساء في غزة، ممن شوهت الحرب أجسادهن وتركتهن يواجهن العزلة والوصمة. فالتشوهات لا تترك ندوباً جسدية فحسب، بل تُحدث شرخاً في العلاقة بين المرأة وجسدها، وتجعلها تعيش في صراع دائم مع المرآة والمجتمع والذاكرة.

يؤكد أطباء محليون أن النقص الحاد في الأدوات الطبية والأطقم الجراحية يجعل من علاج الإصابات المعقدة أمراً شبه مستحيل، في حين تتكدّس طلبات التحويل الطبي إلى الخارج في انتظار موافقات لا تأتي.

تقول إحدى العاملات في مركز الدعم النفسي بغزة (رفضت ذكر اسمها لأسباب أمنية): "الحرب لا تقتل النساء فقط، بل تسرق منهن ملامحهن وثقتهن بأنفسهن. نعمل مع نساء لا يطلبن مساعدة مالية بل وجه يشبه ماضيهن".

ذاكرة الألم بلا نهاية

رغم كل المحاولات لإعادة الحياة إلى طبيعتها، يبقى وجه الحرب في غزة وجهاً أنثوياً بامتياز؛ وجوه تحمل ندوباً مفتوحة وأعيناً مفقودة وقلوباً أنهكها الفقد.

تسعى هؤلاء النساء اليوم فقط إلى استعادة ما يمكن من ملامحهن، لا لأجل الجمال، بل لاستعادة الإحساس بأنهن ما زلن بشراً.

وكما تقول نجوى وهي تمسك بيد ابنها: "أريد فقط أن ينتهي هذا الكابوس.. وأن يراني طفلي كما كنت، لا كما فعلت الحرب بي".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية